من دروب النشأة إلى مواقع التأثير.. محطّات فارقة في حياة الشيخ.. ومواقف مهمّة شكّلت تحوّلات كبيرة في مسيرته العلمية والدعوية (ح: 1)

إعداد: محمدن اليدالي

بعد مرور أكثر من ستّ عشرة سنة على مقابلة يتيمة أجرتها "الأحداث"، وفي مثل هذه الأيام مع الشيخ (فتى)،  وذلك حول فضل شهر ذي الحجة الذي يُعدّ من أعظم الأشهر، حيث تجتمع فيه عبادات كبرى كالحجّ والصيام والذكر، وتُعدّ أيامه (العشر الأُوَل) من أفضل أيام الدنيا،  إلى جانب الوقوف على أحكام الأضحية وشروطها وآدابها، والأنواع المفضلة منها، و الوقت المشروع لذبحها، نتناول في هذا الملفّ سيرة حياة هذا الشيخ الذي ودّع دنيانا قبل أيام، مستعرضين محطّات حياته الأساسية بدءا بالمولد والنشأة، ومرورا بمختلف مراحله الحياتية.. وصولًا إلى أبرز المسارات و الإسهامات التي جعلته يترك أثرًا بالغا، وتألّقا منقطع النظير ، في مجال الدعوة والتعليم ونشر الثقافة الإسلامية بمختلف أنواعها وصنوفها.. 

 

المولد والنشأة

ولد الشيخ محمد عبد الرحمن بن أحمد الملقب (ول فتى)، سنة 1953، بضواحي بلدية تنغدج، التابعة لمقاطعة بوتلميت، وتلقّى تعليمه أوّلا في منزل أسرته، إذ أن والده كان ذا إلمام بعلوم الفقه واللغة والنحو.. كما كان من أهل القرآن.. وقد جمع صاحبنا القرآن في سنّ مبكرة بين مرابع ذويه، وعلى يد مشايخ من أهمّهم، والده الذي درسه بعض القرآن، وتعلّم منه الإعراب، واستفاد منه كثيرا من المسائل الفقهية، والشيخ أحمد زيدان طالبن البصادي، الذي أكمل على يده القرآن، كما أخذ السند فيه لاحقا من محظر (آل الغوث) الشهيرة..   

كما قرأ بعض كتب الفقه على الشيخ محمد امبارك ولد زكرياء.. بعد حصوله على السند في القرآن، رجع إلى مرابع الأهل وعاش حياة طبيعية داخل مجتمعه، إذ لم ينقطع لتحصيل العلم، وإن كان ذكاؤه الحادّ، وفهمه المتوقّد، وحافظته التي لم تخنه قطّ، وشغفه بالعلم والثقافة.. كلّها عوامل تجعل من الشيخ أداة قابلة لاستيعاب وتحصيل العلوم والآداب بمختلف تجلّياتها..

بعد فترة لاحقة، ومع بداية السبعينيات، التحق بعالم التجارة، وظلّ يزاولها دون أن ينقطع عن اهتمامه الذي جبل عليه، ألا وهو: تحصيل العلم، عبر أيّ قناة أتيحت له، سواء عن طريق اقتناء الكتب، أو مذاكرة و استفسار بعض أربابه إذا التقى بهم.. وهكذا ظلّ محلّ إعجاب وتقدير كل من التقى أو اجتمع بهم على مائدة العلم أو الأدب و الثقافة بشكل عام..   

في نهاية السبعينيات، أو بداية الثمانينيات، توجّه الشيخ نحو التصوف التقليدي، والتحق بزاوية سميّه العلامة المحدّث الشيخ محمد عبد الرحمن ابن أبي بكر ابن فتى، وذلك في فترة علاّمة زمانه وفارس ميدانه، الشيخ أحمدو بن فتى، فلازمه في فتراته التي كان يأتي فيها للعاصمة نواكشوط، وكان محلّ إعجاب وتقدير من طرف الشيخ، فاستفاد منه معارف جمّة، أثّرت في سلوكه وغيّرت وتيرة حياته، خلال تلك الفترة، وانهمك في تحصيل العلم أكثر من ذي قبل، إضافة إلى تهذيب النفس وتزكيتها، وتطهير القلب، وتقوية الصلة بالله تعالى.. 

كما ظلّ وفيّا لشيخه، عارفا له حقّه، مشيدا بعلوّ كعبه ومسوعيته في مختلف العلوم الشرعية وعلوم الآلة، كاللغة والنحو والبلاغة والأدب.. ضف لذلك الاستقامة و الزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله والدار الآخرة..

كما أثمرت علاقته بهذا الشيخ نسج علاقات قويّة مع بعض سدنة هذه الحضرة المباركة وكبار روّادها، أمثال أحمد بن محمد بن احويبيب، رحمه الله، والشيخ بابا ابن الأفضل أطال الله بقاءه، وغيرهما من محبي وتلامذة الشيخ، حيث كانت الصلة بينهم قويّة، ويطبعها التقدير، وتبادل المعارف والخبرات والعرفان بالجميل.. وذلك عبر اللقاءات المتكررة، والرسائل المكتوبة التي تتمّ من حين لآخر..   كما استفاد الشيخ من زيارة بعض القامات العلمية و الأدبية الكبيرة التي كان يلتقي بها هي الأخرى، أمثال العلامة القاضي عبد الرحمن بن ميلود، والإمام بداه ابن البصيري الذي حضر  كثيرا من دروسه، والعلامة انّه ولد الصفي، إذ كان معجبا بفهمه وتبحّره في الفقه وعلم النوازل خاصة، وقد استفاد منه كثيرا، كما درس عليه ألفية ابن مالك، أو أغلبها، والعلامة محنض باب بن امّين.. وقد حدّث أنه تردّد عليه فترة من الزمن يسأل ويستفسر ويدرس، وذات مساء قال له، سنتناوب على تدريس كل منّا الآخر، يوم لي ويوم لك (كال آن مانك لاه اتواسيه في أنتم انكريك الا اتكريني)، فقبل الشيخ منه ذلك.. وغيرهم.. 

وفي فترة التحاقه بالزاوية "الفتويّة"، اقتنى الشيخ كتاب إحياء علوم الدين لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله، واستوعبه، وهو كتاب يجمع بين العلوم الشرعية والسلوك العلمي، ويوفق بين الفقه و التصوف، ممّا يجعله مرجعا شاملا  لتزكية النفس وتصفية القلب، كما يتناول إصلاح النفس والأخلاق، وتنظيم حياة المسلم، والربط بين الظاهر والباطن، إذ لا يقتصر على الشكل الخارجي للعبادات، بل يوضّح مقاصدها و أسرارها، فيربط بين العمل القلبي والبدني، إضافة إلى استناده إلى النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال السلف، وإن كان الكتاب كما هو معلوم قد أثار مواقف متفاوتة بين العلماء، تراوحت بين الإعجاب الكبير، والانتقاد الشديد، إلا أن جلّ العلماء يثني على نبل مقصد الكتاب وعظمه وأهمّيته.. رغم ما يكتنفه من أحاديث ضعيفة وقصص مثيرة.. 

يتواصل