من دروب النشأة إلى مواقع التأثير.. محطّات فارقة في حياة الشيخ.. ومواقف مهمّة شكّلت تحوّلات كبيرة في مسيرته العلمية والدعوية (ح: 2)

إعداد: محمدن اليدالي


 

بداية الصعود

ظلّ الشيخ وفيّا لمبادئه، ثابتا على دربه، ناسكا متبتلا في محرابه، وبين رفوف كتبه داخل منزله، ينتقي أطاييبها، ويلتهما التهام النّهم بعد انقطاع عن الطعام.

كان أوّلَ إمام لمسجد قريته الأم (تنغدج)، وخطيبَ جامعها في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، كما بدأت رحلته مع التدريس قريبا من هذه الفترة. 

وفي منتصف التسعينيات اهتمّ الشيخ بعلوم التفسير، وقام باقتناء جهاز إذاعة و أشرطة مسموعة تحوي تفسير العلامة آبّ بن اخطور الجكني للقرآن الكريم، واستوعب ذلك التفسير في فترة قياسية قصيرة، وقام بإهداء الجهاز الإذاعي لمسجد القرية، وبدأت رحلته مع التفسير، واهتمامه به، واقتناؤه لاحقا لبعض كتبه كأضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، لابن اخطور، وأحكام القرآن لأبي بكر بن العربي، وغيرهما..   

كما بدأت مسيرته مع تنظيم الدروس، وخاصّة في مادة التفسير مع منتصف التسعينيات، وذلك في مسجد السجاد ابن اعبيد رحمه الله، الواقع شمال غرب مقرّ (اتحادية النقل) سابقا، في مقاطعة تيارت..

مع نهاية التسعينيات، ترك الشيخ التجارة، وتولّى مسؤولية إمامة مسجده المعروف ب (مسجد أهل أحمدو)، الواقع في مقاطعة دار النعيم (دار السلامة)، وظلّ إمامه وخطيبه وشيخ محظرته، إلى أن تمّ بناء مسجده (جامع ابن كثير)، الواقع في حي المطار القديم، قبل سنة وأشهر.. أنعش الشيخ عدّة برامج دينية، في التلفزة الوطنية و إذاعة القرآن الكريم، وغيرهما.. كما عمل:

- عضو إدارة المجلس العلمي لإذاعة القرآن الكريم.

- عضو المجلس العلمي في مركز تكوين العلماء، وأستاذا معتمدا لمادة التفسير فيه.

- أستاذا متعاونا لمادة التفسير بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية.

- عضو مجلسي إدارة الحكماء و الشورى في جمعية المستقبل، وقد شارك في وضع القرارات الاستراتيجية والتوجيهية للجمعية.

- ترك بصمة جليّة في مجال العلم والدعوة والتوجيه والوعظ...

- شارك بقدر كبير في نشر الثقافة الإسلامية، عبر قنوات مختلفة،  وفي مختلف مناطق البلاد..

وكان له اهتمام خاصّ بالقضية الفلسطينية، حيث كان يخصّص جزءا من خطبه ومحاضراته، للتوعية والتوجيه في هذا الشأن.

 

منعطف في مجال السلوك

   تناول الشيخ في إطار دروسه ومحاضراته مختلف الجوانب الدينيّة و الأدبية و السلوكيّة.. المتعلّقة بواقع المجتمع، وكان يدعو بكل وضوح إلى التمسك بكتاب الله تعالى و بما صحّ عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، محذّرا من المبدع والمحدثات التي طرأت بعد سلف الأمة الصالح، من صحابة وتابعين وتابعي تابعين.. مستعرضا الآيات والأحاديث الدالّة على ذلك، دون مجاملة أو مواربة.. 

فتناول الرقية التي تستخدم الطلاسم والحروف المقطّعة والأوفاق..، وقال إنها من عمل الشياطين، وأعرب عن موقفه من الاستعانة والاستغاثة بغير الله، وأكّد أنها لا تجوز، ونبّه على خطورة الشرك الخفي، وأوضح أنه أخفى من دبيب النملة السمراء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء.. وغير ذلك من المسلكيات المستشرية داخل المجتمع، والتي يراها منافية ومخالفة للشرع.. وهنا نلحظ جيّدا  بعض التجديد، أو التحوّل في الجانب السلوكي.. تأثرا بالتصوف السني، وذلك بعد ولوج الشيخ إلى خزانة ابن القيم ومطالعة كتبه ومصنفاته..

وقد اقتنى الشيخ بعض كتب العلامة بن القيم الجوزية، وخاصّة تلك التي تعتني بالتصوف السني ودراسته من منظور نقدي، وبالأخص كتابه "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"، وهو أشهر كتبه في التصوف، شرح فيه كتاب "منازل السائرين" للشيخ الهروي، وتناول فيه منازل السالكين إلى الله، وبيّن الأخطاء التي وقع فيها بعض الصوفية، مع عرض منهج سلفي للتزكية والسير إلى الله، وكتاب الروح الذي تناول فيه بن القيم كذلك جوانب روحية، تتعلّق بالنفس والموت و البرزخ..، وزاد المعاد في هدي خير العباد، وغير ذلك من مؤلفات هذا العلامة المتبحّر في مختلف صنوف وفنون العلم..     

ويتجلّى تصوّف الشيخ (فتى) في حسن خلقه، وكمال أدبه، ونقاء عبوديته، وخشوعه واستقامته وتنسّكه وتواضعه وزهده في لعاع الدنيا..، فما حصل منها على غير كفاف، عاش به  محمودا، غير مذموم، محبّبا غير مبغّض.. يحبّ الخير للعامّة، ويسدي النصح للكلّ، ويوجّه ويعلّم..، ولا يخاف في الله لومة لائم..   فلم يترك سيارات فاخرة، ولا عمارات شاهقة، ولا حسابات ممتلئة، لأنه كان من طينة نادرة، لا تعمل إلا لحساب الآخرة، من أمثال  الشيخ الحاج فحفو، على حدّ تعبير المدوّن والكاتب: الطالب عبد الودود، أما الشيخ محمدّ سالم جدّ، فقد عبّر عن هذا المعنى بقوله: 

فما همّه هذا الحُطام ولم يكن 

إذا صنّفوا يوما فقيه الموائد.

 

مسيرته العلمية والدعوية

في مسيرة العلم والدعوة، تبرز بعض الشخصيات التي لا تكتفي بمجرد الإسهام في تخصّصها، بل تشكل علامات فارقة في تطور المعرفة بمختلف أنواعها و تجلياتها، ومن بين هذه الشخصيات السامية، تبرز مكانة الشيخ، كواحد من أولئك الذين جمعوا بين العلم والأدب والأخلاق والطرافة و العبقرية في كلّ ذلك..، إضافة للفهم الثاقب، والقدرة والتمكّن من التوصيل، بأسلوب بسيط، يجمع عمق الكلمة وبلاغتها، وبساطة الدلالة وقربها.. ومن المعلوم أنه قلّما يجتمع في المرء عمقُ العلم وجزالةُ القول، غير أن الشيخ كان من أولئك النوادر الذين أوتوا ملكوت الكلمة، فكان إذا علا  المنبر، أنصت السامعون كأنّ على رؤوسهم الطير، و تدفّقت كلماته كعقد انفرط سلكه، تحمل في طيّاتها الموعظة الصادقة الخارجة من القلب، وكأنّ صاحبها ينذر أهله الشرّ المحْدق، وقد علا صوته، وارتعدت فرائصه، وذلك مع علم غزير متدفّق، وحكمة نادرة، وبلاغة ساحرة تأسر العقل، وتذهل اللبّ.

كما جمع بين البيان والإقناع، وبين نور الفكر وقوّة التعبير.. إنه بحقّ، أحد أعلام الخطابة، وفرسان المنابر وعباقرة البيان في عصره...

عندما تفرّغ الشيخ لمنابر  التعليم والدعوة والتوجيه..، دخلها بقوّة، وأشهر عقيرته في وجه الظلمة والمستبدّين، فناهض نظام الرئيس السابق معاوية ولد سيد أحمد الطائع، عند ما بدأ في اضطهاد وتوقيف ومضايقة الإسلاميين، وأنعش محاضرات عديدة، تعبّر عن مدى الشجب والإدانة لما يتعرّضون له من ظلم، وما يطالهم من حيف..

وبالرغم من قلة إنتاج الشيخ للشعر، فإنه عبّر به عن دعم ومساندة الإسلاميين، بقيادة الشيخ محمد الحسن الدد.. وقد دعي ذات مساء إلى مسجد الذكر، لإنعاش منبر الخميس الذي كان يطلّ من خلاله الشيخ الددو، محاضرا وموجها وداعيا..، فاستصغر الشيخ (ول فتى) نفسه، واعتبر أنه ارتقى مكانا لا يتّسع له، وفاء لحقّ ومقام الشيخ الذي يقبع في السجن.. ففاضت شاعريته بالأبيات التالية:

منبرَ الذكر والكتاب المبين 

عشت مأوى لكلّ ندب مكين 

عشت مأوى الهداة والعلم والحـ 

ـلم ومأوى الفقير والمسكين

منبر كان مجلس الشيخ يبدي 

من عويص العلوم كلّ دفين

ويحلّي جيل الزمان بعقد 

يزدري كلّ ذي وقار ثمين

صار مثلي عليه يجلس إني 

مستعين في مثل ذا بالمعين

ساعديني يا عيني أن أذرف الد 

دمع وإن لم تساعديني دعيني

ويقول في مستهلّ قصيدة أخرى يخاطب الشيخ ورفاقه:

أجدّك إن الشيخ عادا

لمسجنهو واجها لانتقادا..

وهكذا ظلّ يواكب مختلف الأحداث، الوطنية و الإقليمية والعالمية، ويتناولها في خطبه، ومحاضرته، وفي مقدمتها، قضية القدس التي، ما غابت عن خطبه، بل ظلت حاضرة ماثلة لا تفارق وجدانه.. تمتّع بدرجة عالية من الأدب والأخلاق، والسعي في خدمة الإسلام والمسلمين، ورغم ارتباطاته والتزامات الرسمية، فإنه كان دائما يحرص على تلبية المطالب الملحّة التي تتهاطل عليه من هنا وهناك، تعليما وتوجيها وإرشادا.. إذ أنه كان محبّبا لدى العامة والخاصة، ومحلّ ثقة في التعليم و الفتوى والتوجيه والدعوة إلى الله تبارك وتعالى.. وكان  ثمرة ذلك محبين وتلامذة كثر..

شقّ الشيخ لنفسه طريقا يجمع بين موسوعية العالم المتمكّن من مفاتيح النصوص الشرعية، والقادر على فهم الواقع وتحليله وربطه بالأحكام الشرعية المناسبة له، فيجمع بين النصوص الشرعية، والإدراك العميق للواقع الذي تطبق فيه هذه النصوص، ضف لذلك أنه كان مستقلّ النظر واسع الاطلاع، وله اجتهادات ربّما خرج فيها عن مشهور مذهب الإمام مالك، إذا ترجّح له بالدليل خلاف ذلك، وهذا دليل على اتساع علمه، وصحّة فهمه، وليس خروجا عن المذهب بمعناه السلبي، بل هو اجتهاد داخل الإطار العام للمذهب..

وربما كان الشيخ تأثر في هذا المقام  بالإمام أبي بكر بن عبد الله بن العربي، الفقيه الأصولي المجدد، أحد أعلام المذهب المالكي الكبار بالمغرب والأندلس، حيث كانت له اجتهادات خرج فيها عن مشهور المذهب، كقتل المسلم بالكافر، إذا اقتضى العدل ذلك، خاصّة في حال أهل الذمة والمعاهدين، واحتجّ على ذلك بعموم قوله تعالى: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس"، ومشهور المذهب أنه لا يقتل مسلم بكافر..

كما يمكننا القول إن للشيخ نزعة للمذهب الظاهري، وإن لم يكن ظاهريا صرفا، إلا أن بعض آرائه تميل إلى المنهج الظاهري، خاصة في اعتماده على الآثار وإعلاء شأن النصوص الشرعية، وقد تأثّر أسلوبه في الترجيح، ومقاربته ودراسته للنصوص الشرعية، بالإمام أحمد ابن حزم، الذي شكّل ظاهرة فكريّة فريدة بمسوعيته، وتنوّع اهتماماته، وبجرأته في الطرح واستقلاله في الرأي، وإن كان لا يدّعي لنفسه أهليّة الترجيح، أو الاجتهاد أحرى.. بل يسِم نفسَه في بعض الأحيان بالجهل، كما يستعرض في الوقت نفسه الرأي المخالف، ويذكر في بعض أدلّته في المسألة..

هذا إلى جانب اعتداله ووسطيته في المنهج والطرح، وعدم ميله للتجريح والتكفير والتبديع.. 

وقد أكّد الرئيس محمد جميل منصور، في ندوة تأبينية للشيخ أنه جمع بين أمرين، عزّ على الكثيرين الجمع بينهما، فهو سني يكره البدعة، ويحبّ الرجوع إلى الأصول، وهو مع ذلك معتدل، وسطي النهج والطريق والمسلك، ملفتا إلى أن بعض الناس يوفّقه الله، بأن يلتزم السنة، ويدعو إليها، ولكن يكون في سلوكه عنَة وشدّة وغلظة.. وبعض الناس يكون وسطي المنهج، معتدل الطريق، ولكنّه لا يؤصّل نفسه، وعلمه بها محدود..

وفي هذا السياق نستطرد ما سطّره الكاتب والأستاذ إسماعيل يعقوب الشيخ سيديا، عن الشيخ، في إطار تحليله لمنهجه التربوي والدعوي، حيث أشار إلى أنه: (كان راوية داريا متبصرا من الذين يألفون ويؤلفون؛ أنعم الله عليه بالقبول والوفاء والصبر؛ عاصر التحول الرقمي الكبير، لكنه لم يستسهل أمر الفتوى ولم يغفل الحث على توحيد العباد لرب العباد سبحانه وتعالى في المنشط والمكره.

استطاع أن يقحم الفتوة في العلم الشرعي ويلبس جبة الفتى وهو على محرابه.

ظل مسهلا ميسرا حتى أتاه اليقين؛ وجعل من الفقه والتفقه والاحتياط قهوة صباحية ميسّرة على أثير الإذاعة وعبر التلفزيون ومن فوق المحراب.

لم يزده علمه إلا تواضعا، ولم يزده أدبه إلا قربا من الناس؛ فنال ما نال من صفات في حياته كأديب العلماء وعالم الأدباء عن جدارة واستحقاق.

حافظ على منهج رباني غير متوارٍ، فنافح عن سجناء الرأي ووقف إلى جانب رفاق الدرب؛ رغم صعوبة الحال وابتعاد الكثير من أرباب الفقه اجتهادا واضطرارا واختيارا عن غضب السلطان. 

فتحدث الشيخ (ول فتى) عن أسعار المواد الأساسية وغزة وصيانة الحريات والاستبداد السياسي والصراع على السلطة والقضاء والنظام المالي بدهاء وكفاءة؛ رافضا أن يظل في محرابه مرابطا بين الوعظ والإرشاد والحديث عن الدار الآخرة.

لم تغب مع جسمه مكتبة نادرة وموسوعة فقهية منقطعة النظير فقط؛ لكن الذائقة الأدبية والظرافة والقبول ترزأوا..).

 

يتواصل